محتوي الموضوع
كان للأدب قديمًا شأن عظيم، وكان الأدباء كأنهم ملوك على الناس، وكان صاحب البيان المبرز في الشعر أو الكتابة أو الأعمال الأدبية الأخرى يُعَدُّ من المرموقين في العصور السابقة وخصوصًا في العصر الأموي والعباسي وما تلا ذلك من عصور كان للأدب والشعر فيها القدح المُعَلَّى، وقد حفلت ثقافتنا العربية والإسلامية بالعديد من الأسماء العظيمة والمبهرة التي نفاخر بها أمام الدنيا جميعًا في علومهم وما قدموه من آداب؛ من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: المتنبي والأصمعي وعبد القاهر الجرجاني والجاحظ وغيرهم الكثير من الأدباء الكبار.
ونحن في هذا الموضوع الجاحظ شيخ الأدباء، نتعرض إلى شخصية فريدة من نوعها صاحب عقلية فذة وقلم سيَّال كأنه يكتب من بحر لا ينفد، شخصية اليوم هو الأديب الكبير وشيخ الأدباء في عصره وفي العصور التي تلته هو أبو عثمان الجاحظ الأديب الكبير، سنتعرض إلى سيرته في هذه المقالة بالتفصيل، لعل القارئ الكريم يجد بُغيته حول هذا الأديب العظيم في موضوعنا هذا.
نبذة عن الجاحظ:
هو أبو عثمان عمر بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكتاني المصري، المولود سنة 159 هجريًّا، وهو من الأدباء العرب الذين اشتهروا في العصر العباسي، كانت ولادته في البصرة، وكانت وفاته فيها، وكان في الجاحظ نتوء ملحوظ في حدقيته، فكان لقبه الحَدَقي، غير أن اللقب الذي اشتهر به وطارت في الآفاق شهرته بعد ذلك هو لقب الجاحظ، كان الجاحظ من المعمِّرين فقد عاش قريب من تسعين سنة، وترك العديد من الكتب التي من الصعب إحصاؤها كثرة، غير أن من أشهر كتبه المعروفة والمتداوَلة بين الناس والتي حدثت له بها الشهرة الواسعة والفضل الكبير بين الأدباء في كافة العصور؛ كان كتابه الحيوان وكتاب البيان والتبيين وكتاب البخلاء، تلك أشهر كتبه، كما كتب كذلك في علوم الكلام والأدب والتاريخ والسياسة والأخلاق والحيوان والنبات والصناعة وغير ذلك من العلوم، فقد كان رجلًا موسوعيًّا بحق.
وقال ابن خلدون رحمة الله عليه عندما تكلم عن علم الأدب ما مفاده أن أصول الأدب ومبناه على أربعة كتب؛ وهي: كتاب أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب الأمالي لأبي علي القالي، ثم ذكر ابن خلدون أن ما بعد هذه الأربعة كتب يُعَدُّ تبعًا لها وفرعًا منها.
انظر أيضًا: الجاحظ
نشأته:
كما ذكرنا أنها نشأ في مدينة البصرة نشأة فقيرة، وكان دميم الخلقة جاحظ العينين في روحه خفة ويميل إلى الهزل والفكاهة في أكثر الأحيان، ولذلك كانت كتاباته على اختلافها وتنوعها وكثرة موضوعاتها لا تخلو أبدًا من نبرة الهزل والسخرية التي عُرِفَ بها الجاحظ بين الأدباء، وكان قد طلب العلم في سن صغيرة، غير أنه لرقة حاله وفقره لم يستطع أن يتفرغ بصورة كاملة لطلب العلم، فأصبح يعمل في النهار، ويؤجر دكاكين الوراقين بالليل، وكان يقرأ في الليل ما يستطيع أن يقرأه وما يقدر عليه.
وُلِدَ الجاحظ في خلافة الخليفة المهدي وهو ثالث الخلفاء العباسيين، وكان مولده عام 150 هجريًّا وقيل: عام 159 هجريًّا وقيل 163 هجريًّا، وقد تُوُفِّي في خلافة الخليلة المهتدي بالله في العام 255 هجريًّا، فكان بذلك قد عاصر اثنا عشر خليفة من خلفاء الدولة العباسية، وقد عاش الجاحظ في فترة كان فيها ازدهار للثقافة العربية وهي في ذروة إنتاجها؛ مما أثر عليه كثيرًا وجعله أيضًا من النوابغ المرموقين المشهورين.
أخذ الجاحظ علوم العربية على أبي عبيدة صاحب كتاب نقائض جرير والفرزدق، وكذلك أخذ عن الأصمعي المشهور، ودرس النحو على يد الأخفش، وكذلك تعلم علم الكلام على يد النظَّام المعتزلي، فكان الجاحظ معتزليًّا على عقيدة المعتزلة، ومن المعروف أنها من العقائد المنحرفة عن عقيدة أهل السنة والجماعة، نسأل الله له المغفرة.
اتصل الجاحظ بالعديد من الثقافات الأخرى غير الثقافة العربية كالثقافة الهندية واليونانية والفارسية، وذلك من خلال بعض الأعمال المترجمة أو ربما يناقش المترجمين أنفسهم، وكان الجاحظ يتقن الفارسية؛ حيث دون بعضًا من النصوص في كتابه المعروف بالمحاسن والأضداد بالفارسية، وقد توجه إلى مدينة بغداد وبرز فيها وتفوق وتميز وعُرِف واشتُهِرَ وقد تصدر للتدريس، وكان متوليًا لديوان الرسائل لدى الخليفة العباسي المأمون.
قراءاته:
عُرِف الجاحظ منذ حداثة سنه بميله الواضح والصريح نحو القراءة في كل العلوم وشتى الأمور حتى تضايقت أمه به، وظل ميله إلى القراءة والمطالعة طول عمره، حتى اشتُهر أنه لم يكن يكتفي بقراءة الكتاب أو الكتابين في اليوم الواحد فقط، بل كان يؤجر الدكاكين من الوراقين ويبيت في هذه الدكاكين كي يطالع ويقرأ، وقد أورد ياقوت الحموي الأديب المعروف قولًا لأحد معاصري الجاحظ يدل على شدة نَهَم الجاحظ بالعلم والثقافة والقراءة والمطالعة، يقول ما مفاده أنه لم ير أبدًا ولم يسمع بأحد أحب العلوم والكتب من أبي عثمان الجاحظ، حيث إن الرجل لم يقع في يده كتاب أبدًا إلا وقد استوفى قراءته، فقد كان الجاحظ يُشبه آلة مصورة، فليس يقرأ شيئًا إلا وقد علق بذهنه لا يكاد ينفك عنه أبدًا، ويظل في الذاكرة لديه حتى أمد بعيد جدًّا.
غير أن الجاحظ لم يكن قاصرًا مصادر معرفته وثقافته على الكتب فقط، بل كان يذكر هو أن العلم الحق لا يمكن أن يكون إلا على يد معلم، فتتلمذ الجاحظ على أيدي الكثير من العلماء المعاصرين له، وهو وإن لم يكن يتفق مع بعضهم في بعض الأمور إلا أنه كان يقر بفضل الجميع وينقل عن الجميع في كتبه.
وقد تكوَّن لدى الجاحظ علم غزير وثقافة عظيمة ومعارف كبيرة من خلال التحاقه بحلقات العلم التي كان فيها العديد من المداولات والنقاشات والأسئلة في اللغة والنحو والشعر وغير ذلك.
فقد صُنّف الجاحظ على أنه نسيج وحده في كل العلوم؛ مثل العربية وعلوم الكلام والفتيا والأخبار والتأويل وأخبار العرب مع ما كان عليه من قوة الفصاحة ونصاعة البيان ورصانة الأسلوب وضخامة المعنى.
انظر أيضًا: ابن الهيثم
أساتذته:
تتلمذ الجاحظ على يد العديد من الأساتذة في العديد من العلوم، ومعظم الذين تلقى عنهم العلم هم علماء البصرة، ومن أساتذته:
في الفقه والحديث كان من أساتذته أبو يوسف القاضي وكذلك يزيد بن هارون وثمامة بن الأشرس وغيرهم.
أما في الشعر والأدب واللغة فقد كان من أساتذته أبو عبيدة وكذلك الأصمعي وخلف الأحمر والأخفش والمدائني.
أما في علوم الكلام والاعتزال، فقد كان من أساتذته النَّظَّام وأبو الهذيل العلاف وثمامة بن أشرس وغيرهم، وكما ذكرنا آنفًا أن عقيدة الاعتزال إنما هي عقيدة منحرفة تخالف أصول أهل السنة، وينفون الصفات عن الله سبحانه وتعالى.
ومع إضافة النبوغ والعبقرية إلى الجاحظ نعرف أنه يستحق بكل استحقاق أن يكون مبهرًا لكل من يقرأ له كتبه وأن يكون ساحرًا لكل من يسهر على ترجمته ومعرفته، فليس في وصف الجاحظ بالعبقرية أي مبالغة من أي نوع، فهو عبقري بالفطرة، وكتبه شاهدة له على هذه العبقرية.
كتاب البخلاء:
هو من الكتب المشهورة عن الجاحظ وهو كتاب علم وفيه فكاهة، وهو من أنفس الكتب المشهورة عن الجاحظ، وقد ظهرت فيه روح هذا الأديب عالية خفَّاقة تجتذب النفوس إليه في سلاسة ويسر، وقد تجلى في هذا الكتاب أسلوب الجاحظ الفكاهي إلى جانب أسلوبه الجزيل والرصين وقدرته الفائقة على صياغة العبارات في أوضح الكلمات وأدق التعابير وأروع الأوصاف، وقد وصف في هذا الكتاب ما كانت عليه الحياة الاجتماعية في صدر دولة بني العباس، وقد أطلعنا الجاحظ في هذا الكتاب على العديد من الأسرار ودخائل المجتمع، وأسمعنا الكثير من أحاديث القوم في شؤونهم العامة والخاصة، وكشف العديد من العادات والأحوال.
صوَّر الجاحظ في هذا الكتاب المجتمع تصويرًا بيانيًّا بديعًا واقعيًّا فكاهيًّا، حيث صور لنا نظرات المجتمع وحركاته ونزواته، وأفصح عن الكثير من الأمور وأرانا نفسية الأهالي في هذا التوقيت، فهو كتاب لا غنى عنه لأديب من الأدباء أو قارئ من القراء.
انظر أيضًا: الحسن بن الهيثم
كان هذا ختام موضوعنا حول الجاحظ شيخ الأدباء، قدمنا خلال هذه المقالة بعض الأمور من سيرة شيخ الأدباء أبي عثمان عمرو بن بحر المشهور بالجاحظ، والذي يُعَد من أكابر الأدباء واللغويين في العصور السابقة وحتى عصرنا هذا، فالجاحظ كان رجلًا من العبقرية بمكان، ولا يستطيع إنسان أن يجحد فضله على العربية وعلى أهل هذه العربية، فقد كان رجلًا فصيح اللسان يُبرز الكلام في أبهى صورة كأنه اللؤلؤ والمرجان، فحُقَّ له أن يُلَقَّب بشيخ الأدباء بكل جدارة واستحقاق.