محتوي الموضوع
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وهو الخليفة المجتهد العابد الزاهد الناسك، أمير المؤمنين، كان من أئمة المسلمين الكبار ومن علمائهم العظام، وكان له خلق حسن وعقل تام كامل، وكان جيدًا في سياسته، وكان يحرص على العدل في كل شيء بما استطاع وما كان في إمكانه وقدرته، وكان فطنًا ذكيًّا تعرف علامة النجابة في وجهه وفعله وسمته، وكان ينطق بالحق ويجهر به مع قلة من يسانده ويعينه في ذلك الحق، ومع كثرة الأمراء الظلمة الذين كرهوا سياسته ولم يرضوا به؛ لأنه أخذ كثيرًا مما أخذوه من الناس بغير وجه حق.
ونحن في هذا الموضوع عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل، نتعرض إلى بعض ملامح من سيرته العطرة، هذا الحاكم العظيم المسلم الذي منَّ الله به تعالى على الأمة، فعَدَل بين الناس، وحَكَم بينهم بالقسط حتى أفضى إلى ربه محملًا بثناء الناس عليه ودعائهم له بالخير والعاقبة الحسنة.
أسرته:
- نشأ أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز في المدينة، فلما عقِلَ وشبَّ عن الطوق كان يأتي إلى الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم كان يرجع إلى والدته فيقول: يا أمه، أنا أحب أن أكون مثل خالي، وكان يريد بذلك أنه يحب أن يكون مثل عبد الله بن عمر.
- ولما كبر عمر بن عبد العزيز سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى ولاية مصر أميرًا عليها، ثم إنه كتب إلى امرأته أم عاصم أن تأتي إليه بولدها، فراحت إلى عمها عبد الله بن عمر فأخبرته بما كتب إليها زوجها عبد العزيز بالإتيان إليها، فقال لها: يا ابنة أخي، هو زوجك فالحقي به، فحين أرادت اللحاق به، قال لها: خلِّفي هذا الكلام عندنا، يريد بذلك عمر بن عبد العزيز، فإنه أشبهكم بنا أهل البيت، فما كان منها إلا أن خلفته عنده ولم تخالف في ذلك.
- فلما ذهبت إلى زوجها عبد العزيز سألها عن ابنه عمر، فأخبرته بما جرى، فسُرَّ عبد العزيز بذلك، وكتب إلى أخيه عبد الملك بن مروان ينبئه بهذا النبأ، فكتب عبد الملك بن مروان أن يُجرى عليه ألف دينار كل شهر.
- وهكذا كانت تربية عمر بن عبد العزيز رحمه الله رحمة واسعة بين أخواله بالمدينة من أسرة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وليس من شك أنه تأثر تأثرًا كبيرًا بهذه البيئة الصالحة التي تربى فيها، وبما اجتمع له من اللقاء بالصحابة الكرام في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
طلبه للعلم:
- كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله محبًّا للعلم منذ نشأته الأولى وكان يحب طلب العلم ويحب المذاكرة والمطالعة ومحاورة أهل العلم، وكان يحرص على هذه المجالس لا يكاد يفوته منها مجلس، وكانت المدينة في ذلك الحين منارة للعلم وزاخرة بالعلماء والصالحين والفقهاء، وكانت نفس عمر تتوق إلى العلم وهو صغير السن، وقد جمع عمر رحمه الله القرآن وهو في سن صغيرة، وعاونه في ذلك ما كان من صفاء ذهنه وقوته الكبيرة على الحفظ، وما كان منه من تفرغ بصورة تامة للطلب والحفظ.
- وقد كان بالغ التأثر بالقرآن الكريم، وما كان يرى فيه من نظرات إلى الحياة وإلى الكون وإلى الجنة والنار وما يصيب المؤمن من قضاء الله وقدره، وحقيقة الموت الذي يخافه الناس، وكان يبكي كثيرًا حين يذكر الموت رغم أنه لا زال في ذلك الوقت في سن صغيرة، فلما وصل ذلك إلى علم والدته أرسلت إليه وسألته عما يبكيه؟ فقال: ذكرت الموت، فما كان من أمه إلا أن بكت حين وصلها جوابه، وقد عاش رحمه الله طول حياته مع كلام الله سبحانه وتعالى متأملًا متدبرًا، ينفذ أوامره ويجتنب نواهيه.
- ومن المواقف التي تُروى عنه مع القرآن العظيم: ما رُوي من أن رجلًا قد قرأ عنده وهو في ذلك الوقت أمير المؤمنين، قرأ الرجل قوله تعالى: (وإذا أُلْقوا منها مكانًا ضيقًا مقرَّنين دَعَوْا هنالك ثُبورًا)، فما كان من عمر بن عبد العزيز إلا أن بكى بكاءً شديدًا، وعلا نحيبه، وقام من هذا المجلس إلى بيته وتفرق الناس.
- فرحمه الله رحمة واسعة على ما كان من علمه وتقواه وخشيته وبكاءه لله سبحانه وتعالى.
شيوخ عمر بن عبد العزيز:
- كان صالح بن كيسان هو المربي لعمر بن عبد العزيز، فقد اختاره والده له، حيث تولى صالح تربية عمر وتأديبه، وكان يُلزمه بالصلوات المكتوبة في المسجد، فحدث في يوم من الأيام أن تأخر عمر عن الصلاة مع جماعة المسلمين في المسجد، فقال له صالح: ما كان يشغلك؟ قال: كان مرجِّلتي – أي التي تسرِّح شعره – تسكِّن شعري، فلامه صالح على ذلك بأن كيف يبلغ منك حب تسكين شعرك على إيثاره على الصلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز بن مروان يخبره بهذا الخبر، فبعث والده رسولًا فلم يكلمه حتى قام بحلق رأسه.
- وكان عمر بن عبد العزيز على حرص شديد بالتشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يتم ركوعه وسجوده، وكان يخفف من القيام والقعود، وفي رواية أنه كان يسبح في الركوع وفي السجود عشرًا عشرًا، ولما أن حج والده ومر بالمدينة قام بسؤال صالح بن كيسان عن ولده عمر، فأخبره أنه ما رأى أحدًا الله أعظم في صدره من هذا الفتى الصغير، يقصد عمر.
- وكذلك من شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم كثيرًا: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فقد كان عمر رحمه الله يحبه كثيرًا ويجله كثيرًا، وقد نهل من علمه وأدبه، وكان يتردد عليه حتى بعد أن صارت له إمارة المدينة، ولقد عبر عمر بن عبد العزيز عن إكباره لشيخه وكثرة تردده إلى مجلسه، فقال رحمه: لمجلس من الأعمى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أحب إليَّ من ألف دينار.
- وكان يقول دائمًا أنه لو كان عبيد الله حيًّا ما كان يصدر إلا عن رأيه وفتواه، وكان عبيد الله هو مفتي المدينة في ذلك الوقت، وكان واحدًا من الفقهاء السبعة، وقد قال عنه الإمام الزهري: كان عبيد الله بحرًا من بحور العلم.
- وأيضًا من شيوخ عمر: العالم الجليل سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهم كثير، حيث وصل عدد شيوخه إلى ثلاثة وثلاثين، كان منهم ثمانية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبقية خمسة وعشرون من التابعين أهل العلم والورع والتقوى، وقد نهل عمر رحمه الله من علومهم وآدابهم ولازم مجالس هؤلاء الكرام حتى تكشَّفت آثار تلك التربية ونضحت على أخلاقه وتعاملاته وتصرفاته.
خلافة عمر بن عبد العزيز وسياسته:
- كان من أهم الأمور التي تميز عمر بن عبد العزيز في خلافته للمسلمين وسياسته لهم، هو حرصه الشديد على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحرص على نشر العلم بين رعية المسلمين، وتفقيه هؤلاء الناس في دين الله تعالى، وكان حريصًا على تعريفهم بالسنة.
- وكان ينطلق عمر من فهمه العميق لقضية الخلافة، وأن الدين فيها هو الأساس، فهمة الخليفة هو حفظ الدين وسياسة الدنيا بالدين، فهو يرى أن ذلك أول واجباته التي يقدمها للمسلمين.
- وقد ورد في إحدى خطبه قوله: إن للإسلام حدودًا وشرائع وسننًا، فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان، فلئن أعش أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
- وكان دائمًا يذكر أنه يرجو أن يميت الله تعالى على يديه البدع وأن يحيي السنن على يديه وأن يأخذ بركة ذلك، وأن يجد عاقبته عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
صور عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل:
كان هذا ختام موضوعنا حول عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل، قدمنا خلال هذه المقالة طرفًا من سيرة عمر بن عبد العزيز العطرة، رحمه الله رحمة واسعة وجزاه كل الخير عن أمة الإسلام والمسلمين، فقد كان رجلًا من الحكام العادلين الذي يُضرب بهم المثل في العدل والخلق والتقوى والكرم والزهد والنسك، وغير ذلك من صفات العظماء الكبار والحكماء الأجلاء الذين لا يوجَدون إلا قليلًا قليلًا.
فرحمه الله ورضي عنه وأسكنه فسيح جناته، فقد عشنا معه في هذه المقالة وروحه تتدفق في جنبات كلماتنا حتى أنني زادت محبتي لهذا الرجل الفريد، وكلما طالعت سيرته وسيرة أمثاله من الصالحين المصلحين زدت لهم حبًّا ومودة وحرصًا على المذاكرة لهؤلاء والاطلاع على ما فات من أخبارهم.