شعرشعر حب

قصيدة أنشودة المطر – بدر شاكر السياب

أنشودة المطر للشاعر العراقي بدر شاكر السياب واحدة من أبرز معالم الشعر العربي الحديث، حيث تمثل تحولا جذريًا في بنية القصيدة العربية من الشكل التقليدي إلى الشعر الحر. كتب السياب هذه القصيدة في خمسينيات القرن العشرين، معبرًا عن معاناة وطنه العراق، ومجسدا فيها مشاعر الحزن والأمل والحنين. يستخدم السياب في هذه القصيدة رمزية المطر ليعبر عن الخصب والتجدد، وفي الوقت نفسه عن الحزن والأسى، مما يجعلها قصيدة متعددة الأبعاد والدلالات.​

عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ
عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ
وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ … كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ
يَرُجُّهُ المِجْدَافُ وَهْنَاً سَاعَةَ السَّحَرْ
كَأَنَّمَا تَنْبُضُ في غَوْرَيْهِمَا النُّجُومْ
وَتَغْرَقَانِ في ضَبَابٍ مِنْ أَسَىً شَفِيفْ
كَالبَحْرِ سَرَّحَ اليَدَيْنِ فَوْقَـهُ المَسَاء
دِفءُ الشِّتَاءِ فِيـهِ وَارْتِعَاشَةُ الخَرِيف
وَالمَوْتُ، وَالميلادُ، والظلامُ، وَالضِّيَاء
فَتَسْتَفِيق مِلء رُوحِي رَعْشَةُ البُكَاء
كنشوةِ الطفلِ إذا خَافَ مِنَ القَمَر!
كَأَنَّ أَقْوَاسَ السَّحَابِ تَشْرَبُ الغُيُومْ
وَقَطْرَةً فَقَطْرَةً تَذُوبُ في المَطَرْ
وَكَرْكَرَ الأَطْفَالُ في عَرَائِشِ الكُرُوم
وَدَغْدَغَتْ صَمْتَ العَصَافِيرِ عَلَى الشَّجَر
أُنْشُودَةُ المَطَر
مَطَر …
مَطَر…
مَطَر…
تَثَاءَبَ الْمَسَاءُ وَالغُيُومُ مَا تَزَال
تَسِحُّ مَا تَسِحّ من دُمُوعِهَا الثِّقَالْ
كَأَنَّ طِفَلاً بَاتَ يَهْذِي قَبْلَ أنْ يَنَام:
بِأنَّ أمَّـهُ التي أَفَاقَ مُنْذُ عَامْ
فَلَمْ يَجِدْهَا، ثُمَّ حِينَ لَجَّ في السُّؤَال
قَالوا لَهُ: ” بَعْدَ غَدٍ تَعُودْ.. ”
لا بدَّ أنْ تَعُودْ
وَإنْ تَهَامَسَ الرِّفَاقُ أنَّـها هُنَاكْ
في جَانِبِ التَّلِّ تَنَامُ نَوْمَةَ اللُّحُودْ
تَسفُّ مِنْ تُرَابِـهَا وَتَشْرَبُ المَطَر
كَأنَّ صَيَّادَاً حَزِينَاً يَجْمَعُ الشِّبَاك
وَيَلْعَنُ المِيَاهَ وَالقَدَرْ
وَيَنْثُرُ الغِنَاءَ حَيْثُ يَأْفُلُ القَمَرْ.
أَتَعْلَمِينَ أَيَّ حُزْنٍ يُبْعِثُ المَطَرْ؟
وَكَيْفَ تَنْشِجُ المَزَارِيبُ إِذَا انْهَمَرْ؟
وَكَيْفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضَّيَاعْ؟
بِلَا انْتِهَاءٍ كَالدَّمِ المُرَاقِ، كَالجِيَاعْ،
كَالحُبِّ، كَالأَطْفَالِ، كَالمَوْتَى هُوَ المَطَرْ!
وَمُقْلَتَاكِ بِي تَطِيفَانِ مَعَ المَطَرْ
وَعَبْرَ أَمْوَاجِ الخَلِيجِ تَمْسَحُ البُرُوقْ
سَوَاحِلَ العِرَاقِ بِالنُّجُومِ وَالمَحَارْ،
كَأَنَّهَا تَهُمُّ بِالشُّرُوقْ
فَيَسْحَبُ اللَّيْلُ عَلَيْهَا مِنْ دَمٍ دِثَارْ.
أَصِيحُ بِالخَلِيجِ: “يَا خَلِيجْ
يَا وَاهِبَ اللُّؤْلُؤِ، وَالمَحَارِ، وَالرَّدَى!”
فَيَرْجِعُ الصَّدَى
كَأَنَّهُ النَّشِيجْ:
“يَا خَلِيجْ
يَا وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى…”
أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يَذْخَرُ الرُّعُودْ
وَيُخَزِّنُ البُرُوقَ فِي السُّهُولِ وَالجِبَالْ،
حَتَّى إِذَا مَا فَضَّ عَنْهَا خَتْمَهَا الرِّجَالْ
لَمْ تَتْرُكِ الرِّيَاحُ مِنْ ثَمُودْ
فِي الوَادِ مِنْ أَثَرْ.
أَكَادُ أَسْمَعُ النَّخِيلَ يَشْرَبُ المَطَرْ
وَأَسْمَعُ القُرَى تَئِنُّ، وَالمُهَاجِرِينَ
يُصَارِعُونَ بِالمَجَاذِيفِ وَبِالقُلُوعْ،
عَوَاصِفَ الخَلِيجِ، وَالرُّعُودْ، مُنْشِدِينَ:
“مَطَرْ…
مَطَرْ…
مَطَرْ…
وَفِي العِرَاقِ جُوعْ
وَيَنْثُرُ الغِلالَ فِيهِ مَوْسِمُ الحَصَادْ
لِتَشْبَعَ الغِرْبَانُ وَالجَرَادْ
وَتَطْحَنَ الشَّوَانُ وَالحَجَرْ
رَحَىً تَدُورُ فِي الحُقُولْ… حَوْلَهَا بَشَرْ
مَطَرْ… مَطَرْ… مَطَرْ…
وَكَمْ ذَرَفْنَا لَيْلَةَ الرَّحِيلِ، مِنْ دُمُوعْ
ثُمَّ اعْتَلَلْنَا خَوْفَ أَنْ نُلامَ بِالمَطَرْ…
مَطَرْ… مَطَرْ… مَطَرْ…
وَمُنْذُ أَنْ كُنَّا صِغَارًا، كَانَ خَرِيفْ
يُبَكِّي فِي قَرَانَا الجُوعَ، مَا يُبَكِّي!
نَتَفَاتُ عَظْمٍ أَوْ بَقَايَا مِمَّا تَبَقَّى مِنْ طَعَامْ
أَوْ سُعْفَةٍ خَضْرَاءَ يَبْلَعُهَا الظَّلَامْ
فَلا نَنَامْ
نُسَامِرُ النَّجْمَ وَالأَحْلَامْ
وَالطَّرِيقُ يُغَطِّيهِ الرَّمَادْ
مَطَرْ… مَطَرْ… مَطَرْ…

يَا صَدِيقَتِي، مَاذَا يُعَنْي أَنْ نُحِبَّ؟
مَعْنَاهُ أَنْ نَصْطَلِي، وَنُرْعِبَ الأَيَّامْ
وَفِي غُرُوبِ كُلِّ فَجْرٍ نَرْتَقِبْ
طَلْعَتَهُ كَمَا يَرْتَقِبُ النَّبِيُّ الوَحْيَ مِنْ رَبِّ السَّمَاءْ
كَيْ نَشْتَرِي أَيَّامَنَا بِالدَّمْعِ وَالذِّكْرَى، وَنَبْكِي عَلَيْهَا،
فَهَلْ يَسْمَعُ الشَّقِيُّ صَرْخَتَنَا؟

كُلُّ شَيْءٍ غَابَ إِلَّا المَطَرْ،
صَوْتُهُ يَذُوبُ فِي أُذُنِي كَمَا يُذُوبُ فِي النَّشِيدْ،
يَا أُنْشُودَةَ الحَيَاةِ، يَا لَحْنَ البَقَاءِ وَالْخُلُودْ،
أُمَطِّرِينِي حُبًّا، أُمَطِّرِينِي حُلُمًا،
أُمَطِّرِينِي أَمَلاً، أُمَطِّرِينِي عَطَاءً،
يَا صَدِيقَتِي، المَطَرْ…

قصيدة “أنشودة المطر” ليست مجرد وصف جمالي للطبيعة أو للشتاء، بل هي صرخة وجودية مفعمة بالألم والحنين، تعكس ئئربة الشاعر الشخصية وتعيد تصوير معاناة وطن بأكمل يُوظف السياب الرمز ببراعة، فيصبح المطر دالًا على الحياة والموت، الأمل واليأس، الحنين والغربة.كما أن البناء الموسيقي للقصيدة، بتكرار لفظ “مطر”، يمنحها بعدًا صوتيًا مؤثرًا يُشبه تساقط القطرات على القلب مباشرة.

في “أنشودة المطر”، نجد شعرًا يُكتب بالروح لا بالحبر، ونصًا يستمر في التأثير جيلاً بعد جيل، لأنه صادق، نقي، ومشحون بكل ما يحرك الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى