للصورة تأثير كبير جدًّا على النفس الإنسانية، ولعلها من أكثر الأشياء جلبًا للتأمل وبروز الخاطرة في ذهن الإنسان، فالصورة في الأساس مدعاة إلى التعليق، تريد من يعلق عليها ويذهب فيها خاطره يمنة ويسرة بلا توقف، والتعبير عن الصورة دليل على إحساس المتكلم بمدى أهمية ما يرى، الإحساس الذي يصل إلى درجة اللمس والاقتراب من حقيقة الصورة كأنه عاشها وداخلها بقلبه وعقله وروحه وكيانه.
الصورة الأولى:
كيف أخبرك يا عزيزي أن مقدار الأمان الكبير الذي تمنحه لعلاقتنا يخيفني ؟
لقد اعتدت على علاقات أحرقني فيها القلق والترقب والخوف من النهايات ، علاقات أعدت بناءها بجسارة وسددت ثقوبها بكل مكونات قلبي ، لدرجة وصولي مرحلة كنتُ ألحم فيها الجراح مراراً بحرارة دموعي حتى أنال الشفقة ولا أصل إلى نهاية ..
كنتُ أعبد الطرقات لاستمرار أعرف أنه لن يأتي لكني تمنيته ، أمسك الأيادي وأشحذ العواطف شحذاً بشعاً لأقول لقلبي بأنني حصلتُ أخيراً على رد جميل ، استنزفتُ نُبل العطاء وامتنان الأخذ على أولئك الذين كلما غابوا بكيتُ كطفلٍ صغير لم يحصل على جائزة ظن أنه يستحقها.. أولئك الذين كان يحلو لهم الغياب ..
كيف أشرح لك أن عطب روحي ما عاد يُشفيه الأمان وما عاد يؤثر فيه الخوف من الفقد .. وأنني أمنح فرصتي الوحيدة لأحيا علاقة حقيقية لكن بلا سذاجة العواطف التي تجعل هذا الحب حلواً ويستحق .. كيف ..
الصورة الثانية:
المجدُ في النهاية للجبارين الأقوياء ، للطرف السيء من حيز هذا العالم ، للأوغاد .. وحدهم فهموا اللعبة ..
البقية ينظفون أرض طهرهم ويلمعون جدران قلوبهم بالتعفف والاكتفاء، يتوددون و يخجلون ويسامحون بكل ما تمتلكه معتقداتهم من مغفرة ، يُقبلون على العطاء دون أخذ ، يمنحون الكثير من ” الفرصة الثانية ” .. ولا يهم إن كان عددها الفعلي مائة فرصة …. يسكبون عاطفتهم دمعةً دمعة .. دون أن تروي كؤوس تعاستهم رغبات الآخرين ..أجل .. المجدُ في النهاية للذين ركلوا العالم بكل من فيه .. بقسوة.
الصورة الثالثة:
الاخلاق ثم اسلوبك ثم تعاملك – هم ما يحكمان ردة فعل الإنسان ، قبل أن تفكر إن كانت المرأة حنونة سعيدة مرحة وجميلة أم كئيبة وقاسية ونكدية وشقية ! فكر بالذي ميزه الله بالإنسان، ماذا قدمت لهذه المرأة من الحنان لترد عليّ بالحنان.
من الصدق ، ..لتصدّق أقوالي ولا تكثر شكوكي، لتكون إعانةً لي على الزمن لا ضدي، ماذا قدمت لها من الأدب ، والشكر ، واحترام كيانها ، وعدم إذلالها.. لتحترمني ، وتكن ظلّي الذي يسري معي لا الذي ينعتني بالكُره ويكرهني، ماذا قدمت لهذه المرأة ؟ ماذا قدمت لغيرها ؟! إن كنّا جميعهن قاسيات ، ناطحات فرجــاء تحرّى ظلّك؟ وتذكر شوك يدك وشقاء تحولك وراجع أمرك
كيف عاملتها .. كيف تجيد التعامل مع النساء اللواتي ليس بينك وبينهم عملا أو مصلحة فأمر النساء – وهي منهن كله – يعتمد عليك دليل أن المرأة التي تعبس في وجهك قد يجعل وجهها – رجلٌ آخر -أأمن وأصفى من الشمس.
الصورة الرابعة:
لقد كبرتُ ، و صار عمري إثنان وثلاثون عاماً ..
هذه الحقيقة المطلقة تكونت في هذه اللحظة تماماً ، وسأتعايش معها لمدة عام كامل ، وكلما سُئلت سيكون هذا الرقم إجابتي ، التي عليها أن تشبه تصرفاتي وشكلي ونصوصي وحتى علاقاتي مع الآخرين .. الآخرين الذين أسقطت نصفهم من قلبي فيما مضى ، ونصفهم .. أسقطوني .
حسناً .. أقولها متيقنةً : لقد فقدتُ ايماني بالأبد ، لكنني لازلت أعيش اللحظة الجميلة كما لو أنها .. الأبد .
و كلما مشيتُ في العتمة يهبني الله إجابة لكل سؤال صرخت به ذات لحظة ألم .. وأذكر الآن كما لو أنه يحدث بمرارة .. تساؤلي الأقسى ،
” لماذا يا الله ؟ ”
وأستشعر غرزهُ في عينيًّ وروحي وورقي وطعامي والبحر الهادر والمطر .. الإجابة الوحيدة ، والمُقدرة مذ خُلقت وعِشتُ العواطف بكل ما فيها من تناقضات وأقدار :
” الألم يُرينا السعادة ، الظلمة تمنحنا النور ، والخوف يخلق فينا الإيمان ” .. وشخص واحد فقط ، بإمكانه جعلنا نكفر بكل ما نحب ، وآخر .. يمكنه خلق المحبة من قاع الظلمة و يباس القلب ..
عمري إثنان وثلاثون عاماً ..
وبالرغم من فقداني الشعور بالكثير من العواطف ، إلا أنني لازلت أشعر بالإطمئنان كلما صليت ، وبالمحبة كلما مُنحت وردة ، وبالإمتنان كلما استطعتُ شراء كتاباً .. وبالدهشة وارتباط اللسان كلما بكت أمي أمامي.. كأن العمر قصير ..
إثنان وثلاثون عاماً ..
ولازلتُ ، بكل حفاوة .. أستقبل نسمات الهواء عندما تدغدغ جلدي عن طيب خاطر ، وأبتسم .. ولازلت أحاول جاهدةً عدم قول الكلمة إلا إن كنتُ أعنيها .. أعنيها تماماً ..
إثنان وثلاثون عاماً .. ها أنا أشعلها وحدي ، دون أن ينظر إلي أحد ويقول لي : تمني أمنية ، ودون أي محاولة لتصنع الدهشة أمام آخرين .. تعبوا على مفاجأة أعرف عنها مسبقاً ، ودون أغنية بائسة تقول لي happy birthday to you .. لأنني ، وبهذه اللحظة تحديداً ، لستُ سعيدة ، لكنني حُرة .. أشبهني ، وأعيش ما أرغب به تماماً ، تحررتُ من انهزاماتي و توقع الآخرين ، مطلقةً العنان لروحي مع التيار ، الحب للحب ، والبهجة لصانعيها ، واللهفة للمقدمين على قلبي كأنني هواء على رحيل ..
إثنان وثلاثون عاماً .. على قدر ما أخذت ، على قدر ما وهبت ، وعلى قدر ما حاولت صنع علاقات أبدية بالأشخاص والأشياء .. ها أنا .. أعيش الأبد الحتمي والمُحقق ، مع ذاتي .
يمكنني القول الآن بأنني أقدِّر كل مافعلته من هُراء ، في سبيل بناء سعادات ناضجة سأرتكبها بعد هذا اليوم عن طريق الصدفة، وأجل .. أحبني ، وأحب كل الذين خلقوا فيَّ حبي لذاتي ، وكل الذين ظلوا ، والذين لم يتحملوا غنائي المزعج ، وبكائي المرير ، وضحكاتي الساخرة ..
هذه شمعتي ، أشعلها على مهلٍ أمام الأوراق التي خلقت مني أنثى أكثر اندفاعاً وأقل اهتماماً بما حولي .. دون قطعة حلوى أو أغنية قادرة على جعلي أفكر بأمنية ساذجة .. لأقول لك بأنني :
” رزقت مع الخبز حبك .. فلا شأن لي بمصيري .. ما دام قربك ..”.
ختامًا:
عرفنا أهمية الصورة وعرضنا هذه الصور المعبرة التي تعبر عن مدى صدق الإحساس الإنساني وعظيم بيانه وقدرته على التعبير عما في داخله بسلاسة شديدة وبلا توقف، بل بنفس عال لا يخلو من ضعف، وبقوة تعبر عن مدى الفهم لطبيعة الصورة، الصورة خيال يوحي إلى الكاتب الخواطر الكثيرة.