محتوي الموضوع
في أمة الإسلام نشأ العديد من الرواد الأفذاذ والأعلام الكبار الذين سبق صيتهم إلى العالم أجمع، فعرفهم الجميع لما لهم من فضل على البشرية جمعاء في علوم كانت مجالًا مشتركًا بين بني البشر أجمعين، فنشأ في هذه الأمة علماء أفذاذ أمثال الأئمة الأربعة في الفقه وأمثال ابن خلدون في الفكر وأمثال الجاحظ في الأدب وأمثال الغزالي في أصول الفقه، وغيرهم من الأفذاذ الذين قاموا في هذه الأمة ينشرون ضياء علومها بين الأمم.
ونحن في هذا الموضوع ابن خلدون أكبر مفكري الإسلام، نتعرض إلى بعض الملامح من شخصية ابن خلدون ونشأته التي هي مثار دهشة وإعجاب لكثير من القارئين فكر هذا الرجل، وكيف كان يتوقع ما يحدث وما سيحدث بقدرة فائقة على استقراء الأمور والتاريخ واطلاع باهر بما حصل قديمًا وحديثًا مكَّنه من أن يكون له نظر ثاقب في كل الأمور التي تناولها في كتاباته، ولعل القارئ الكريم بإذن الله تعالى يجد ما يريده في موضوعنا هذا.
نبذة عن نشأة ابن خلدون :
يُعتبر عبد الرحمن بن خلدون من الشخصيات العبقرية التي نشأت في البيئة العربية وترعرعت فيها وتميزت وصار له الشهرة والواسعة والقدح المُعلى لأجل آرائه السديدة في مختلف العلوم، فقد كان رجلًا موسوعيًّا بجدارة متعدد الثقافات والمعارف، وهو من الرواد المجددين في العديد من الفنون والعلوم، وهو يُعتبر الأب الروحي لعلم الاجتماع، ومن الأئمة المجددين في علوم التاريخ، وأحد الرواد الذين برعوا في فن الترجمة الذاتية.
كذلك كان ابن خلدون من العلماء الراسخين في علوم الحديث وكذلك في الفقه ومجالات الدراسة التربوية، وعلم النفس، كما له إسهامات عديدة في التجديد في أساليب الكتابة بالعربية.
وُلِدَ ابن خلدون في تونس في رمضان سنة 732 هجريًّا، وكانت نشأته في أحد بيوت العلم والمجد العريقة، فكان أن حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة منذ الطفولة، وقد كان والده هو الذي يعلمه، كما أنه درس وتعلم على أيدي مشاهير العلماء في عصره، من علماء الأندلس الذين انتقلوا إلى تونس بعد أن ألمَّت بها الحوادث، فتعلم ابن خلدون القراءات المشهورة وعلوم التفاسير والفقه المالكي والحديث، وكذلك تعلم علم التوحيد والأصول، كما أنه تعلم علوم العربية من بلاغة ونحو وصرف وأدب، وكذلك تعلم علوم الفلسفة والمنطق والرياضيات والطبيعة، وكان في جميع تلك العلوم مبرزًا على جميع أقرانه لافتًا نظر شيوخه وأساتذته إلى هذا النبوغ الذي يحمله هذا الفتى منذ أول نشأته.
ومن أشهر هؤلاء الذين تتلمذ عليهم عبد الرحمن بن خلدون هم: الشيخ محمد بن عبد المهيمن الحضرمي، وكذلك محمد بن العربي، وكذلك محمد بن سعد بن برال، وكذلك محمد بن جابر القيسي، وكذلك محمد بن سليمان، وكذلك عبد الله بن يوسف، وكذلك محمد بن إبراهيم، وكذلك أحمد الزواوي وغير هؤلاء الكثير من الشيوخ الذين كوَّنوا فكر ابن خلدون وأثروا فيه تأثيرًا عظيمًا حتى نشأ الفتى في عز من العلم الذي يحمله عن هؤلاء الشيوخ الكبار.
ومن أكثر هؤلاء الذين أثروا في شخصية ابن خلدون وفكره وثقافته العالية هو الشيخ محمد بن عبد المهيمن، وهو إمام من أئمة الحديث والنحاة في المغرب العربي، وكذلك من الذين تأثر بهم كثيرًا كان الشيخ محمد بن إبراهيم الذي أخذ منه ابن خلدون علوم المنطق والفلسفة والرياضيات والطبيعة.
انظر أيضًا: ابن خلدون
الطاعون وأثره في شيوخ ابن خلدون:
عمَّ الطاعون وانتشر في أرجاء العالم الإسلامي سنة 749 هجريًّا، وعصف بالكثير من ممالك الشرق والغرب، وكان لذلك الحدث الأثر الكبير في حياة عبد الرحمن بن خلدون، فقد قضى هذا الوباء على والديه كما أنه قضى على العديد من الشيوخ الذين تتلمذ على أيديهم وتلقى العلم تحت أقدامهم في تونس، أما من نجا من هؤلاء فقد كانت هجرته حيث المغرب الأقصى عام 750 هجريًّا، فلم يصبح هناك أحد يتلقى عنه العلوم أو يتابع معه في الدرس.
فكانت وجهته إلى الوظائف العامة، وأخذ في الطريق الذي سلك فيه أجداده من قبل، وكان التحاقه بوظيفة كتابية في بلاط حكام بني مرين، غير أنها لم تكن على قدر من طموحه، فلم يرض بها، وما كان إلا أن عيَّنه السلطان أبو عنان – من ملوك المغرب الأقصى – عضوًا في المجلس العلمي بفاس الخاص به، ومن ثم سنحت الفرصة لابن خلدون من جديد بأن يعود إلى الدرس على أعلامها من الشيوخ والأدباء الأفذاذ الذين انتقلوا إلى المغرب الأقصى فرارًا من الطاعون.
ابن خلدون وعلم الاجتماع:
يُعتبر عبد الرحمن بن خلدون هو أول من أسس لهذا العلم المعروف والمشهور باسم علم الاجتماع، ومقدمته المعروفة باسم مقدمة ابن خلدون شاهدة على ذلك، وقد عالج ابن خلدون في هذه المقدمة ما يسمى الآن بالمظاهر الاجتماعية، أو ما يُطلق عليه علم العمران البشري.
وكان ابن خلدون معتمدًا في تلك البحوث على أن يلاحظ مظاهر الاجتماع في الشعوب التي سنحت له الفرصة بأن يحتك بها وأن يعيش بين أهلها، وكان له أن يتعقب هذه المظاهر في تواريخ تلك الشعوب ذاتها في عصورها السابقة، فكان يعقد بين ذلك المقارنات بين القديم والحديث ويحلل ويدقق ويخرج بأفضل النتائج المبهرة التي أبهرت العلماء المعاصرين في هذه العلوم، فالذي لا يستطيع أن ينكره أحد من الشرق أو الغرب أن عبد الرحمن بن خلدون هو واضع النواة الأولى والأساس الأول لهذا العلم الحديث المعروف بعلم الاجتماع.
وقد كان عبد الرحمن بن خلدون من السابقين لعصره، وقد تأثر به العديد من العلماء الذين برزوا في علم الاجتماع وأتوا من بعده من أمثال فيكو وليسنج وفولتير، كما أن جان جاك روسو وأوجست كانط المفكران الفرنسيان المشهوران وكذلك مالتس المفكر الإنجليزي، قد تأثر به هؤلاء تأثرًا هائلًا.
علاقة ابن خلدون بعلوم التاريخ:
تظهر أصالة علم عبد الرحمن بن خلدون في مدى تجديده وتطويره في علوم التاريخ، وذلك كما هو واضح جدًّا في كتابه الهائل العظيم العبر وديوان المبتدأ والخبر، وتظهر في هذا الكتاب الهائل هذه المنهجية التي كان يتحلى بها عبد الرحمن بن خلدون ويفضُل بها على سائر من تكلموا في هذا الباب؛ لما له من عقلية ناقدة على وعي شديد بالمجريات وبالأمور من حولها ويعرف كيف يدقق ويقارن ويخرج بنتائج من أفضل ما يخرج به عالم، حيث كان عبد الرحمن بن خلدون يستطلع الأحداث التاريخية ويستقرئها ويستنطقها بطرق علمية عقلية بحتة، ومن ثم يحقق في أمورها ويبين ما فيها من صحيح وسقيم بطريقة عبقرية.
فقد جدَّد ابن خلدون وطوَّر في علم التاريخ بإخراج كتابه العبر وديوان المبتدأ والخبر تبعًا لنهج جديد اختلف كثيرًا عما كانت عليه كل الكتابات التاريخية التي سبقت كتابه هذا، فهو لم يكن ينسج على منوال قديم، بل اصطنع لنفسه منهجًا نسج عليه، واتخذ نظامًا أكثر إتقانًا ممن سبقه، وقد قسم كتابه إلى عدة كتب، وقام بجعل عدة فصول متصلة ببعضها في كتاب واحد، وتناول تواريخ كل دولة بشكل منفصل ومتكامل.
وهو يتميز عن أكثر من سبقوه بشدة الوضوح في كتبه ودقته الفائقة وطريقته في التبويب والترتيب، وكذلك براعته في تنسيق كتاباته وتنظيمها والربط بين الأحداث التاريخية بطريقة عبقرية، ولكن ربما أُخذ عليه أنه قد ينقل بعض الروايات الضعيفة التي لا ثقة بها، وليس لها إسناد، ولكن هذا مشهور معروف كان من عادة كثير من المؤرخين أن ينقلوا كل الروايات الموجودة في الباب؛ الصحيح منها والضعيف.
انظر أيضًا: علم الاجتماع
ابن خلدون والشعر:
كان لابن خلدون بعض النظْم الشعري في لحظات صباه وشبابه، وظل على ذلك حتى تعدى الخمسين سنة، ولكنه بعدها فرغ نفسه للتصنيف والعلم، ولم يكن يَنْظِم الشعر بعدها إلا في النادر.
وله شعر يتفاوت في جودته فبعض حسن جميل عذب سامي الألفاظ جزيل المعنى، ولديه أيضًا بعض الشعر المجرد من الروح الشاعرة، وبعض الشعر بين بين وهو الغالب والمشهور من أشعاره.
كان هذا ختام موضوعنا حول ابن خلدون أكبر مفكري الإسلام، قدمنا خلال هذه المقالة بعض المعلومات الهامة حول سيرة هذه الشخصية العبقرية الإسلامية التي نشأت وترعرعت تحت ظل الإسلام والعروبة، فابن خلدون بحق هو أعظم مفكر في تاريخ الإسلام، وهو رجل لم يتكرر في هذه الناحية تقريبًا أحد يشبهه، فرحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة فقد كان علامة موسوعيًّا كبير الهمة عالي النفس، لا يرضى لنفسه بالدنية أو بالقليل، بل كان له طموح أن يعانق الجوزاء وأن يصل إلى الأوج وإلى منتهى الأُفق، ونحسبه قد وصل وقد بلغ إلى ما أراد، والله تعالى يجازيه خير الجزاء بإذنه ورحمته وبركاته.