محتوي الموضوع
أبو نصر الفارابي كان من البارعين في علوم كثيرة كالكلام والمنطق والفلسفة، فكان إمامًا مقدَّمًا في الفلسفة، وقد أتقن هذه العلوم مع العلوم الرياضية، وقد كان شديد الذكاء، يسير على سيرة الفلاسفة المتقدمين من أمثال أرسطو وأفلاطون، وكان له دراية بعلم الطب، وقد ظهر شأنه وعظم أمره واشتهرت مصنفاته، وكثر تلامذته، حتى صار معدودًا من الكبار في عصره، ولكن يذكر عنه أئمة أهل السنة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان فيلسوفًا ضالًّا مبتدعًا في الدين، يقول بالأقوال الخطيرة في الدين الإسلام، وتابعه على ذلك تلميذ الفارابي وهو المشهور بابن سينا.
ونحن في هذا الموضوع الفارابي أبو نصر الفيلسوف، نتعرض إلى بعض اللمحات التاريخية من سيرة هذا الفيلسوف الكبير الذي شغل الناس به طويلًا ولا زالت سيرته وأفكاره محل جدل كبير إلى يوم الناس هذا.
نسبه:
هو شيخ الفلسفة وأوحد الأذكياء، أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي التركي المشهور، وهو من أكابر الفلاسفة الذين ظهروا في ديار الإسلام، وهو طبيب ورياضي وله معرفة بالموسيقى، وله علم باللغات كالفارسية والتركية واليونانية والسريانية، ويشتهر بلقب المعلم الثاني، وهو أصله تركي، وهو مولود في مدينة فاراب في العام 260 هـ، وهي كانت من بلاد الترك، وتقع الآن في جمهورية كازخستان.
رحلات الفارابي في طلب العلم:
خرج الفيلسوف الفارابي من بلده، وانتقلت به الديار والأسفار حتى وصل إلى مدينة بغداد، وهو عالم بلسان الترك وله عدة لغات غير العربية، فأخذ يتعلم اللسان العربي حتى تعلمه وكان فيه غاية الإتقان، ثم بعد ذلك اشتغل بعلوم الفلسفة والحكمة، وقد أدرك بمدينة بغداد الفيلسوف المشهور متى بن يونس فأخذ عنه الفلسفة، ثم قام بالانتقال إلى حران ولزم يوحنا بن جيلان وأخذ كذلك عنه، ثم انتقل إلى مدينة دمشق ثم إلى مصر ثم رجع إلى دمشق.
وقد كان عالمًا باليونانية والعديد من اللغات الشرقية التي كان متعارفًا عليها في زمانه، ويقال: إن هناك نسخة وُجدت لكتاب النفس المعروف لأرسطو وبها خط الفارابي، وقد كان الفارابي مشهورًا بشرحه لكتب وآراء الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو، وقد تتلمذ على يديه العالم الفيلسوف المشهور ابن سينا وأخذ عنه.
ولأبي نصر الفارابي الكثير من الكتب التي أثارت الجدل في معاصريه وفيمن جاء بعدهم، منها كتابه المعروف بالفصوص وقد تمت ترجمته إلى اللغة الألمانية، ومنها كتابه إحصاء العلوم، وكتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، والآداب الملوكية، وإبطال أحكام النجوم، والسياسة المدينة، وأغراض ما بعد الطبيعة، وجوامع السياسة.
وقيل إن الآلة التي عُرِفت بالقانون هي من وضعه، وربما أخذها هو عن الفرس فقام بالتوسعة فيها وإتقانها حتى نسبها إليه الناس.
المكانة العلمية للفارابي:
كان الفارابي من البارعين في علوم كثيرة وفنون عدة كالفلسفة والمنطق وعلم النفس والموسيقى، وأبو نصر هو شارح كتب أرسطو، حتى يقول تلميذه الفيلسوف ابن سينا: قرأت كتاب أرسطو ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرض واضعه حتى قرأته أربعين مرة وصار محفوظًا وأيست من فهمه وقلت لا سبيل إلى فهمه، وبينما أنا في يوم بعد صلاة العصر، وإذا برجل ينادي على مجلد فعرضه عليَّ، وقال اشتره فاشتريته، فإذا هو من تصانيف أبي نصر في أغراض ذلك الكتاب، فرجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته، فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب، وفهمته وفرحت فرحًا شديدًا.
ذكاؤه:
بعد أن رجع الفارابي إلى مدينة دمشق واستقر بها، وكان السلطان حينئذ هو سيف الدولة بن حمدان، وقد كان مجلسه يجمع الكثير من الفضلاء في كل المعارف والعلوم والفنون، فدخل الفارابي عليه وهو يلبس زي الأتراك، فأشار له سيف الدولة بالجلوس، فلم يفعل الفارابي وقام بتخطي رقاب الناس حتى انتهى الفارابي إلى مسند سيف الدولة، فقال سيف الدولة إلى مماليكه بلسان غريب: إن ذلك الشيخ أساء الأدب، وقد تحفز سيف الدولة له وعزم على أن يسأله عن أشياء إن لم يُجب عليه يفتك به.
فنصحه الفارابي بنفس اللسان الغريب الذي تكلم به سيف الدولة ناصحًا إياه بالصبر فإن الأمور بعواقبها، فلما وجد سيف الدولة منه ذلك؛ عجب، وسأله هل يحسن ذلك اللسان؟ فقال له: نعم، أُحسن أكثر من سبعين لسانًا.
علمه بالفلسفة:
أنشأ الفارابي ما عُرِف فيما بعدُ بالفارابية، وهو منهج في الفلسفة، غير أن سمعة ذلك المنهج قد أخذت في الخفون بعد ظهور نجم ابن سينا ومنهجه، وقد وحد الفارابي بين التنظير والتطبيق، غير أنه سياسيًّا دعا إلى القيام بتحرير التطبيق من قيود النظرية، وقد اشتملت معتقداته عن الأفلاطونية ما هو أكبر في العمق من الميتافيزيقا، فخلال محاولاته في التحقيق في المسبب الأولي في هذا الوجود؛ واجه الفارابي حقيقة أن المعرفة الإنسانية قاصرة.
وقد كان لأعمال الفارابي الأثر الكبير على الفلسفة والعلوم الطبيعية لبضعة قرون، فقد وُصِف من قبل العديد من المتخصصين في الفلسفة بأنه أعلم أهل زمانه بعد أرسطو بالفلسفة، وهذا ما أشار إليه اللقب الذي لُقب به وهو المعلم الثاني، وقد مهدت تلك الأعمال للتوحيد بين الفلسفة وما يُعرف بالتصوف.
علمه بالمنطق:
رغم أن الفارابي يُعتبر متابعًا لمذهب أرسطو في علم المنطق إلا أنه استطاع أن يملك أفكارًا من المذاهب المنطقية الأخرى، حيث ناقش مسألة الاحتمالات المستقبلية ومسألة نظرية الأعداد وعلاقة المنطق بعلم النحو، بالإضافة إلى اهتمامه الشديد بأساليب الاستدلال عند أرسطو، ويتم الترجيح أن الفارابي هو أول من قام بتقسيم المنطق إلى جزأين: الجزء الأول هو الفكرة، والجزء الثاني هو البرهان، وقد ناقش الفارابي كذلك نظريات الأقيسة الشرطية والاستدلال التشبيهي، وقد أضاف إلى مذهب أرسطو مفهوم القياس الشاعري، وقد تم ذكر ذلك في التعليقات التي كتبها على كتاب أرسطو المعروف: فن الشعر.
علم النفس عند الفارابي:
كتب الفيلسوف الفارابي مقولتين في علم النفس الاجتماعي، بالإضافة إلى ما جاء في كتبه حول آراء أهل المدينة الفاضلة الذي استطاع به أن يخوض في النفس، معتبرًا النفس أحد الأركان في بناء الإنسان في الدولة التي عمل على تصوُّرها، حيث إنه اكتشف أن الإنسان بنفسه يعجز عن الوصول إلى الكمال وحيدًا، بل لا بد من أن يحتاج إلى العون والمساعدة من الآخرين، فالإنسان بصورته الطبيعية يميل إلى التعاون مع غيره حتى يستطيع أن ينجز ما هو مطلوب منه.
وقد اعتبر الفارابي قوة الإرادة هي القوة المسؤولة عن حصول الرغبات أو عدم حصولها؛ الأمر الذي يحصل في الخيال والإحساس، ومن ثم فهي قادرة على تحفيز السلوك الاجتماعي للفرد، وقد استطاع الفارابي التفريق بين ردات الفعل التي تتم بصورة تلقائية وتقوم بها الحيوانات، وبين ردات الفعل الواعية والتي تنبع من العقلانية عند البشر، وقد عدَّ الفارابي القلب على أنه الحاكم على الجسم، وهو الذي يعمل على تقديم العون إلى الدماغ وإلى بقية الأعضاء، حيث يعطي الحرارة للحواس.
تلك الحرارة هي ذاتها المسؤولة عن وقوع الفروقات بين الجنسين، حيث إنها كلما ازدادت عند الرجال كلما كانوا أكثر غضباًا وعنفًا من النساء اللواتي يتميزن بالرأفة والرحمة، ومن ثم يظهر الإرث الأفلاطوني بوضوح عند الفيلسوف الفارابي.
وفاة الفارابي:
كان الفارابي يميل إلى الانعزال والوحدة والانفراد بالنفس، وكان صاحب زهد كبقية الفلاسفة، وكان لا يحتفل بأي مكسب أو مأوى، وقد أجرى عليه سيف الدولة كل يوم أربع دراهم من بين مال المسلمين، وقد كان يقتصر على تلك الدراهم الأربعة لقناعته، وهو لم يزل على ذلك حتى مات في سنة 339 من الهجرة في دمشق، وقد صلى عليه سيف الدولة وأربعة من خواصه، وقد مات وعمره يناهز الثمانين، وقد دُفِن في دمشق خارج باب الصغير.
صور الفارابي :
كان هذا ختام موضوعنا حول الفارابي أبو نصر الفيلسوف، قدمنا خلال هذه المقالة بعض المعلومات التاريخية حول الفيلسوف المشهور أبو نصر الفارابي، هذا الفيلسوف الذي ملأ الدنيا جدلًا وإثارة، حيث كان على طريقة أرسطو المنحرفة في الاعتقاد، وورث ذلك إلى تلميذه ابن سينا، فكان يقول بنظرية العقول العشرة الخرافية وغير ذلك من الأكاذيب الفلسفية، وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية ردودًا كثيرة في العديد من كتبه، مثل درء تعارض العقل والنقل، وغيرها من الكتب، ونحن نحب أن نأخذ النافع من كل إنسان ونترك الضار الذي لا يُنتفع به، نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا من علمه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.